التوحــش الوهابــي والمســألة الطائفيــة
23/06/2008
حاتم حافظ
في عام 1996 عُينت في مدرسة إعدادية كمدرس للمواد الاجتماعية، قابلت المُدرِّسة الأولي لاستلام العمل فتركزت عيون المدرسات اللاتي كن بجوارها علي بينما كانت تسألني عن اسمي، قلت لها: حاتم حافظ فسألتني عن الاسم الثلاثي فأضفت: زكريا، فلما سألتني عن باقي اسمي فهمت أنها وبقية المدرسات يردن معرفة شيء أبعد من الاسم، يردن تحديدا معرفة ديانتي. تجاوزت ـ بخبث ـ عن الاسم الرابع: محمد وأجبتهن أبو العدب قنصوة، فجأة وقد ضقن بي سألتني إحداهن "يعني مسلم ولا مسيحي؟" فأجبتها سريعا: مدرس جغرافيا!
قبل نهاية اليوم الأول لي في المدرسة التقيت زميلا لي في الكلية استلم العمل قبلي بأيام قليلة، لم أكن أعرفه قبلها ولكن لمجرد أننا نتشارك التجربة نفسها في الوقت نفسه فقد صرنا أصدقاء في فترة قصيرة، خصوصا وقد عرفت أنه موسيقي ووقتها كانت قد أذيعت لي أغنيتان أو ثلاث من تأليفي، المهم أننا منذ لحظة تعارُفنا لم نفترق، ولأن زميلي هذا كان قبطيا استنتج الجميع في المدرسة أني قبطي أيضا.
في البداية لم أعرف لماذا يتجاهلني زملائي، حتي أن بعضهم كان يرد علي تحياتي بكلمات مضغمة لم أكن أفهمها، كان نصف مدرسي المدرسة من الرجال بلحي مهوشة.. هؤلاء كانوا يتجنبونني قدر ما أمكنهم ذلك، ونصفهم ـ غير الملتحين ـ كانوا يعاملونني بريبة شديدة كما لو كنت مدسوسا عليهم، المدرسات الشابات ابتعدن عني تماما ربما لأنني لم أعد بالنسبة لهن مشروع عريس محتمل، والمدرسات اللاتي كن في عمر أمي وبالتأكيد كن منتقبات أو مخمرات كن لا يتعاملن معي أصلا كشخص غير موجود في الجوار. بعد أسابيع قليلة لم يعد يكلمني غير نادر زميلي الموسيقي وغير "ناروز" المدرس الأسيوطي القبطي الذي ظل يكلمني بحرص شديد ويتحفظ بشدة علي علاقتي بنادر باعتباري مسلما، أي أنه يمكن القول إني كنت منبوذا من المسلمين باعتباري قبطيا ومن الأقباط باعتباري مسلما، فقط نادر وأنا تمكنا من الاحتفاظ بصداقتنا لأن الدين لم يكن من شروط أي منا للتعامل مع البشر. ولكن ظلت هذه التجربة ماثلة في ذهني تماما كدال علي "معني أن تكون قبطيا"!.
يتجاهل المصريون الطائفية كأنها مشكلة سوف تنتهي لو أننا توقفنا عن الكلام عنها، مع أن نفي المشكلة طوال عقدين أو أكثر حتي الآن لم ينهها. حفلات الإفطار السنوية التي يقيمها شيخ الأزهر ليحضرها البابا وعدد من القساوسة لم يجعل سائقي الميكروباص أقل حدة في التعامل مع صديقتنا القبطية التي تصر علي ارتداء الصليب كنوع من رد الإهانة ولم تجعل صديقتنا المسلمة تسلم باليد علي صديقتنا القبطية لأنها كما كانت تبرر موقفها: صائمة، ولم تجعل الأخيرة لا تفوت فرصة للإيقاع بين زملائها المسلمين والتشهير بهم، كما أن كل دعوات الحوار بين الأديان لم تجعل المسلمين يكفون عن إطلاق النكات علي القساوسة ولم تجعل الأقباط يكفون عن إطلاق النكات علي المسلمين.
يجب أن نعترف أننا لسنا أبرياء وأننا كمصريين لا نحسن التعامل مع المسألة الطائفية وأننا خضعنا جميعا لخطابات دينية متشددة، كما يجب أن نعترف أن المصريين تم احتلالهم فكريا من قبل كتائب الوهابية الإسلامية وهي كتائب انتشرت في الفضائيات وفي البيوت في صورة دروس دينية يلقيها كل من لا مهنة له بحجة أن الدعوة واجب علي كل مؤمن، وأن نعترف أن هذه الكتائب قد أوقفت عقولنا عن النمو فتوقفنا عن التفكير وتركنا مسئولية التفكير في يد هذه الكتائب التي غيرت من معني "التدين المصري" وهو تدين أصيل في الثقافة المصرية قوامه الإيمان الجوهري إلي تدين مصري وافد قوامه الإيمان الشكلي المظهري الذي يمكن تبينه في لحي بلا أخلاق وحجاب بلا التزام وصلاة في غير أوقاتها، فتعطلت عقولنا عن أن تلبي الأمر النبوي "استفت قلبك" فصرنا نستفتي شيوخنا وجيراننا وأصدقاءنا وكل من حفظ سورة في القرآن لم نحفظها بعد.
يجب أن نعترف أيضا أن هذا التوحش الوهابي في الثقافة المصرية جعل المصريين شعبا عنيفا في سلوكه وفي طريقته في الكلام وفي طريقته في التعامل وفي طريقته في فرض نموذج واحد للتفكير علي الجميع الالتزام به حتي ولو لم يكن مسلما، حتي أن كثيراً من المحجبات عبَّرن عن أنهن قد تحجبن للتخلص من النظرات التي يطلقها الجميع في وجوههن وهي نظرات تساويهن بالعاهرات والفالتات، حتي صار الغالب علي الشارع المصري الزي الباكستاني والخليجي وهو أمر لافت علي توغل الفكر الوهابي في الثقافة المصرية وعلي توقف هذه الثقافة عن إنتاج خطابات أكثر التصاقا بجوهرها وبتاريخها البعيد والقريب. لقد توقف المصريون عن إنتاج خطابات لوقف الزحف الوهابي الذي أطلق فتاوي من قبيل أن تعرية شعر المسلمة أمام القبطية حرام وأن السلام علي القبطي غير مستحب وأن الأكل معهم مكروه.
كل هذا يحدث ولدينا مؤسسة دينية بحجم الأزهر بقيمته الدينية والتاريخية، ولكن للأسف توقف المصريون عموما عن التعامل مع الأزهر بسبب تسييسه، اليوم يعتبره المصريون أزهرا حكوميا، كما أن دار الإفتاء أيضا يتعامل معها المصريون باعتبارها هيئة حكومية كهيئة البريد، ولعل نكتة أن مصر لا تصوم ولا تفطر مع السعودية إلا حين تكون العلاقات السياسية مع المملكة طيبة دالا علي ما وصلت إليه صورة المؤسسة الدينية في مصر. أي أنه من جهة كف الأزهر عن لعب دوره في الحياة الدينية للمصريين في إنتاج خطابات دينية معتدلة ومن جهة أخري فقد الأزهر ودار الإفتاء ثقة المصريين فيهما فلم يعد للمصريين غير الفضائيات التي تمول في الغالب من أفراد أو جهات سعودية وهي فضائيات نجحت في استقطاب رجال الدين المتوائمين مع الخطاب المتشدد وهم في الغالب رجال دين ممن تربوا علي الفكر الصحراوي فترة السبعينيات. إضافة إلي الدروس الدينية التي تعقد في منازل الطبقات الوسطي العليا، كل ذلك خلق حالة من الهوس الديني تسببت في خلق نموذج إسلامي متطرف وشكلي للغاية ترك بصماته في تجهم وجوه المصريين وعدم اهتمامهم بأناقتهم، ناهيك عن العلاقة المتلازمة بين الفقر والجهل والتي صنعت من المصري شخصاً بلا عقل ومغلوب علي أمره في أموره الدنيوية والدينية علي السواء.
وفي تصوري أن الوضع الاجتماعي للمصريين الآن تسبب في نمو هذا الخطاب، فمن جهة أصبح المصريون مغلوبين وبالتالي فإنهم بدأوا في تقليد الغالب مالك النفط لذا يمكنك مشاهدة كم المصريات اللاتي يتشبهن بالخليجيات في طريقة لبسهن للعباءات أو في طريقتهن في إخراج خصلة من الشعر من تحت الحجاب، ومن جهة فإن حال المصريين كمهمشين داخل وطنهم وإحساسهم بأن لا معين لهم جعلهم يرتمون في حضن الخطاب الديني بحثا عن ملاذ بعد أن توقفت الحكومات المتعددة عن حمايتهم. كل ذلك تسبب في خلق سوق رائجة للدين حتي أن رأس المال الذي لا دين له استطاع أن يوجد ما سمي بالهاتف الإسلامي ليتجاور مع أرقام (0900) التجارية سيئة السمعة <
الخطاب الدينى المسيحى من الإنفلات إلى المواجهة فى نقاش على جروب الوليات المتحدة على الفيس بوك
23/06/2008
حاتم حافظ
في عام 1996 عُينت في مدرسة إعدادية كمدرس للمواد الاجتماعية، قابلت المُدرِّسة الأولي لاستلام العمل فتركزت عيون المدرسات اللاتي كن بجوارها علي بينما كانت تسألني عن اسمي، قلت لها: حاتم حافظ فسألتني عن الاسم الثلاثي فأضفت: زكريا، فلما سألتني عن باقي اسمي فهمت أنها وبقية المدرسات يردن معرفة شيء أبعد من الاسم، يردن تحديدا معرفة ديانتي. تجاوزت ـ بخبث ـ عن الاسم الرابع: محمد وأجبتهن أبو العدب قنصوة، فجأة وقد ضقن بي سألتني إحداهن "يعني مسلم ولا مسيحي؟" فأجبتها سريعا: مدرس جغرافيا!
قبل نهاية اليوم الأول لي في المدرسة التقيت زميلا لي في الكلية استلم العمل قبلي بأيام قليلة، لم أكن أعرفه قبلها ولكن لمجرد أننا نتشارك التجربة نفسها في الوقت نفسه فقد صرنا أصدقاء في فترة قصيرة، خصوصا وقد عرفت أنه موسيقي ووقتها كانت قد أذيعت لي أغنيتان أو ثلاث من تأليفي، المهم أننا منذ لحظة تعارُفنا لم نفترق، ولأن زميلي هذا كان قبطيا استنتج الجميع في المدرسة أني قبطي أيضا.
في البداية لم أعرف لماذا يتجاهلني زملائي، حتي أن بعضهم كان يرد علي تحياتي بكلمات مضغمة لم أكن أفهمها، كان نصف مدرسي المدرسة من الرجال بلحي مهوشة.. هؤلاء كانوا يتجنبونني قدر ما أمكنهم ذلك، ونصفهم ـ غير الملتحين ـ كانوا يعاملونني بريبة شديدة كما لو كنت مدسوسا عليهم، المدرسات الشابات ابتعدن عني تماما ربما لأنني لم أعد بالنسبة لهن مشروع عريس محتمل، والمدرسات اللاتي كن في عمر أمي وبالتأكيد كن منتقبات أو مخمرات كن لا يتعاملن معي أصلا كشخص غير موجود في الجوار. بعد أسابيع قليلة لم يعد يكلمني غير نادر زميلي الموسيقي وغير "ناروز" المدرس الأسيوطي القبطي الذي ظل يكلمني بحرص شديد ويتحفظ بشدة علي علاقتي بنادر باعتباري مسلما، أي أنه يمكن القول إني كنت منبوذا من المسلمين باعتباري قبطيا ومن الأقباط باعتباري مسلما، فقط نادر وأنا تمكنا من الاحتفاظ بصداقتنا لأن الدين لم يكن من شروط أي منا للتعامل مع البشر. ولكن ظلت هذه التجربة ماثلة في ذهني تماما كدال علي "معني أن تكون قبطيا"!.
يتجاهل المصريون الطائفية كأنها مشكلة سوف تنتهي لو أننا توقفنا عن الكلام عنها، مع أن نفي المشكلة طوال عقدين أو أكثر حتي الآن لم ينهها. حفلات الإفطار السنوية التي يقيمها شيخ الأزهر ليحضرها البابا وعدد من القساوسة لم يجعل سائقي الميكروباص أقل حدة في التعامل مع صديقتنا القبطية التي تصر علي ارتداء الصليب كنوع من رد الإهانة ولم تجعل صديقتنا المسلمة تسلم باليد علي صديقتنا القبطية لأنها كما كانت تبرر موقفها: صائمة، ولم تجعل الأخيرة لا تفوت فرصة للإيقاع بين زملائها المسلمين والتشهير بهم، كما أن كل دعوات الحوار بين الأديان لم تجعل المسلمين يكفون عن إطلاق النكات علي القساوسة ولم تجعل الأقباط يكفون عن إطلاق النكات علي المسلمين.
يجب أن نعترف أننا لسنا أبرياء وأننا كمصريين لا نحسن التعامل مع المسألة الطائفية وأننا خضعنا جميعا لخطابات دينية متشددة، كما يجب أن نعترف أن المصريين تم احتلالهم فكريا من قبل كتائب الوهابية الإسلامية وهي كتائب انتشرت في الفضائيات وفي البيوت في صورة دروس دينية يلقيها كل من لا مهنة له بحجة أن الدعوة واجب علي كل مؤمن، وأن نعترف أن هذه الكتائب قد أوقفت عقولنا عن النمو فتوقفنا عن التفكير وتركنا مسئولية التفكير في يد هذه الكتائب التي غيرت من معني "التدين المصري" وهو تدين أصيل في الثقافة المصرية قوامه الإيمان الجوهري إلي تدين مصري وافد قوامه الإيمان الشكلي المظهري الذي يمكن تبينه في لحي بلا أخلاق وحجاب بلا التزام وصلاة في غير أوقاتها، فتعطلت عقولنا عن أن تلبي الأمر النبوي "استفت قلبك" فصرنا نستفتي شيوخنا وجيراننا وأصدقاءنا وكل من حفظ سورة في القرآن لم نحفظها بعد.
يجب أن نعترف أيضا أن هذا التوحش الوهابي في الثقافة المصرية جعل المصريين شعبا عنيفا في سلوكه وفي طريقته في الكلام وفي طريقته في التعامل وفي طريقته في فرض نموذج واحد للتفكير علي الجميع الالتزام به حتي ولو لم يكن مسلما، حتي أن كثيراً من المحجبات عبَّرن عن أنهن قد تحجبن للتخلص من النظرات التي يطلقها الجميع في وجوههن وهي نظرات تساويهن بالعاهرات والفالتات، حتي صار الغالب علي الشارع المصري الزي الباكستاني والخليجي وهو أمر لافت علي توغل الفكر الوهابي في الثقافة المصرية وعلي توقف هذه الثقافة عن إنتاج خطابات أكثر التصاقا بجوهرها وبتاريخها البعيد والقريب. لقد توقف المصريون عن إنتاج خطابات لوقف الزحف الوهابي الذي أطلق فتاوي من قبيل أن تعرية شعر المسلمة أمام القبطية حرام وأن السلام علي القبطي غير مستحب وأن الأكل معهم مكروه.
كل هذا يحدث ولدينا مؤسسة دينية بحجم الأزهر بقيمته الدينية والتاريخية، ولكن للأسف توقف المصريون عموما عن التعامل مع الأزهر بسبب تسييسه، اليوم يعتبره المصريون أزهرا حكوميا، كما أن دار الإفتاء أيضا يتعامل معها المصريون باعتبارها هيئة حكومية كهيئة البريد، ولعل نكتة أن مصر لا تصوم ولا تفطر مع السعودية إلا حين تكون العلاقات السياسية مع المملكة طيبة دالا علي ما وصلت إليه صورة المؤسسة الدينية في مصر. أي أنه من جهة كف الأزهر عن لعب دوره في الحياة الدينية للمصريين في إنتاج خطابات دينية معتدلة ومن جهة أخري فقد الأزهر ودار الإفتاء ثقة المصريين فيهما فلم يعد للمصريين غير الفضائيات التي تمول في الغالب من أفراد أو جهات سعودية وهي فضائيات نجحت في استقطاب رجال الدين المتوائمين مع الخطاب المتشدد وهم في الغالب رجال دين ممن تربوا علي الفكر الصحراوي فترة السبعينيات. إضافة إلي الدروس الدينية التي تعقد في منازل الطبقات الوسطي العليا، كل ذلك خلق حالة من الهوس الديني تسببت في خلق نموذج إسلامي متطرف وشكلي للغاية ترك بصماته في تجهم وجوه المصريين وعدم اهتمامهم بأناقتهم، ناهيك عن العلاقة المتلازمة بين الفقر والجهل والتي صنعت من المصري شخصاً بلا عقل ومغلوب علي أمره في أموره الدنيوية والدينية علي السواء.
وفي تصوري أن الوضع الاجتماعي للمصريين الآن تسبب في نمو هذا الخطاب، فمن جهة أصبح المصريون مغلوبين وبالتالي فإنهم بدأوا في تقليد الغالب مالك النفط لذا يمكنك مشاهدة كم المصريات اللاتي يتشبهن بالخليجيات في طريقة لبسهن للعباءات أو في طريقتهن في إخراج خصلة من الشعر من تحت الحجاب، ومن جهة فإن حال المصريين كمهمشين داخل وطنهم وإحساسهم بأن لا معين لهم جعلهم يرتمون في حضن الخطاب الديني بحثا عن ملاذ بعد أن توقفت الحكومات المتعددة عن حمايتهم. كل ذلك تسبب في خلق سوق رائجة للدين حتي أن رأس المال الذي لا دين له استطاع أن يوجد ما سمي بالهاتف الإسلامي ليتجاور مع أرقام (0900) التجارية سيئة السمعة <
الخطاب الدينى المسيحى من الإنفلات إلى المواجهة فى نقاش على جروب الوليات المتحدة على الفيس بوك
No comments:
Post a Comment